يعتبر علم الآثار من العلوم حديثة العهد، ولكن إذا ما قيس بالفترة القصيرة نسبياً التي ظهر فيها، فإنه بحق قد قطع أشوطاً بعيدة في مجال مناهج البحث العلمي المتطور.. وهذا العلم هو من العلوم العملية الذي يركز جهوداً عظيمة بشكل متقن على دراسة الآثار القديمة، بمعنى أنه تقنية فهم الماضي، وذلك من خلال دراسته وتفسيره التاريخي لجميع الآثار واللقى والبقايا والمخلفات المادية، التي هي من مخلفات الماضي السحيق، التي تركتها الشعوب عبر أكثر من مليون سنة حتى القرن السابع عشر ميلادي.
|
الموضوعات العلمية التي يعالجها علم الآثار كثيرة ومتشعبة من أهمها صيانة الأدوات والمواقع الأثرية، ولكي يستطيع الآثاري القيام بعمله على أكمل وجه في عملية التفسير التاريخي للمخلفات والبقايا الأثرية، لا بد له من أن يقوم مع طاقم المعمل الفني بصيانة وترميم اللقى الأثرية والمباني التاريخية.. إنّ أعمال الصيانة والترميم تتم عادة في المخبر المختص لكن ليس دائماً، فمثلاً جدر المباني المعمارية أو نفسها المباني المعمارية عند اكتشافها، فإنها تفقد غطاءها الترابي الذي كان يقيها من عوامل التعرية، ويحميها ويعزلها عن الوسط الخارجي، فإذا ما تركت على حالها مكشوفة في العراء الطلق، فإنها حتماً ستتعرض للتفتت تحت تأثير عوامل التعرية من عواصف وأمطار ورياح عاتية ورطوبة تساهم في تخريبها، إلى جانب اليد البشرية التي لا ترحم في أغلب الأحيان، لهذا فعلى المنقب الأثري أن يكمل عمله في الموقع على أكمل وجه قبل أن يغادره.
كيف تُعالج اللقى الأثرية كالفخار المكسورة والناقصة؟ بداية علينا أن نعرف أولاً أنه عند اكتشافنا لأية لقية أثرية، لا بد من النبش عنها بدقة متناهية، حتى تكون ظاهرة للعيان تماماً، وتبين أنها مكسورة ولا بد من ترميمها، وحين نريد انتزاعها من مكانها، لا بد من اتخاذ الخطوات التالية:
ـ عدم وضع أداة تحت القطعة الأثرية ورفعها من الأعلى، لأنّ ذلك يؤدي إلى كسرها.
ـ شيئاً فشيئاً تنزع عنها كل التربة المحيطة بها، وفي حالة تكون التربة قاسية لا بد من رش الماء عليها كي تلين التربة القاسية.
ـ في حالة تنظيف الفخار في التربة، يستحسن استعمال مجرفة (المسطرين) المعدنية.
ـ قبل رفع الآنية الفخارية لا بد من التأكد من الحالة التي هي عليها، فيما إذا كانت ملوّنة أم لا.....
ـ في حالة كانت هذه الآنية مزخرفة، علينا أن نتأكد أنّ هذه الزخرفة ثابتة ولن تنفصل عند نزعها.
ـ في مثل هذه الحالة، يفضل نزع كامل الأتربة التي تحيط بالآنية، بحيث تبقى الآنية على شكل قاعة ترابية، ثم نقوم بلفها ببعض الشاش ومن ثم حملها إلى المرمم المختص.
وما أنْ تصل هذه الآنية الفخارية إلى المرمم في المخبر، حتى نراه قد بدأ بإلصاق الأجزاء الفخارية المكسورة ووصلها حتى تبدو كاملةً. والسؤال كيف تتم هذه العملية التي تبدو معقدة لأول وهلة؟.
قبل أن يقوم المرمم بهذه العملية، فإنه قبل كل شيء يتحقق من أن حواف وأطراف الكسر الفخارية نظيفة، فإن كانت غير ذلك فلا بد من تنظيفها بلطف بوساطة فرشاة أسنان، وإزالة الأتربة من فجوات التوصيل الصغيرة بواسطة آلة تنظيف الأسنان أيضاً، وبهذا يحصل المرمم على حواف توصيل أكثر ثباتاً، ولم تعد هناك بقايا أتربة تعيق عملية الوصل.. وفي حالة تكون
|
تل البيعة لوح كتابي |
الكسر الفخارية المراد لصقها ما تزال رطبة، فعلى المرمم ألا يلصقها مباشرةً بسبب أنّ مادة (النيتروسيلولوزية)، أو المواد الأخرى مثل مادة (أوهو أو إيميديو) سيتغير لونها إلى لون البياض، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى انفصال الكسر التي تم لصقها، كما أنه يفضل عدم ترميم الآنية الفخارية في الموقع الأثري.. ويؤكد الآثاريون على مسألة أخرى مهمة بالنسبة للمرمم ولعملية الترميم، ألا وهي اختيار المادة اللاصقة، بحيث يجب أن تكون مادة انعكاسية، وأن يتم تجربتها واختبارها.. ويرى المرممون أنّ مادة (نترات السيلوز المذابة في الأسيتون)، كما تقول الباحثة "باخة ديل بوثو، بيرخينيا"، في كتابها: (علم الآثار) ترجمة الدكتور "خالد غنيم"، "بيروت" عام /2002/ ص /140/: «هي الأنسب، وأنها مادة شفافة ويجف خلال نصف ساعة تقريباً، ولكن دائماً حسب سماكة الجزء الفخاري المكسور والكمية المستعملة من المادة اللاصقة. كما أنه يتوجب على المرمم إبعاد الآنية المرممة عن أشعة الشمس المباشرة والحرارة الشديدة»... وفي حالات كثيرة يوصي علماء الآثار والفنيين في المخبر، بعدم استعمال مواد لاصقة بيضاء اللون، لأنه من خاصية هذه المواد أن تتحول مع الزمن إلى مواد صفراء اللون، وينصحون أيضاً بعدم استعمال المادة اللاصقة التي تجف بسرعة كبيرة، لأننا نتعامل مع مواد فخارية مسامية فهي تمتص المادة اللاصقة. هذا بالنسبة للأواني الفخارية صغيرة الحجم، أما بالنسبة للأواني الفخارية الكبيرة الحجم، فيحتاج المرمم إلى مادة لاصقة ذات مقاومة كبيرة من نوع (إيبوكسي EPOXY)، وهذه المادة تكون مؤلفة من عنصرين، وإذا لم يستعمل المرمم مثل هذه المادة، فإنّ الأجزاء الفخارية المرممة ستنفصل عن بعضها البعض بسبب الثقل الزائد الذي لا يمكن أن تثبته غير مادة (ايبوكسي) المكونة من عنصرين كيميائيين.
والآن لنفترض أنّ أحد المنقبين عثر على آنيتين من الفخار، واحدة مكسورة، وكِسرها كاملة وتحتاج إلى ترميم أي إلصاق الأجزاء الكاملة، والأخرى أيضاً مكسورة لكن بعض الكسر ناقصة وتحتاج إلى ترميم الأجزاء الناقصة، ففي الحالة الأولى نرمز لها بالحرف آ والثانية نرمز لها بالحرف ب.
آـ في هذه الحالة تتم عملية الترميم أو اللصق، بأن يقوم المرمم بوضع كمية كافية من المادة اللاصقة على أحد الحواف المنظفة جيداً من الماسورة الحاوية مباشرة، أو بواسطة عود ثقاب خشبي، ثم يقوم المرمم بلصق الجزأين المكسورين مع الضغط الشديد، وبحذر شديد أيضاً لمدة قصيرة جداً تحسب بالثواني، وعند رؤية خروج الزائد من المادة اللاصقة من بين نقاط الوصل، فيفضل عدم إزالته مباشرة، بل يجب الانتظار حتى يجف ومن ثم يُزال بحذر شديد باستخدام آلة حادة، وبعد أن تتم هذه العملية يجب الانتظار حتى يتم جفاف الجزأين الأولين، ومن ثم يبدأ المرمم بوصل الجزء التالي. وفي حال أن جزءاً انفك عن
|
ترميم أوان فخارية |
الآخر، فلا يجوز إعادة لصقه من جديد إلاّ بعد إعادة تنظيف حواف الجزأين وإزالة بقايا المادة اللاصقة، إما بآلة المشرط أو بواسطة مادة الأسيتون.. «أذكر أنني في أحد أيام أعمال التنقيب الأثري في موقع (تل البيعة) "توتول" في "الرقة" القديمة، شاهدت المرمم الألماني في غرفة الترميم في مبنى البعثة وهو يرمم آنية فخارية من الأسفل باتجاه الأعلى، وذلك لتسهيل عملية الوصل بين جزأين مكسورين، وقد شاهدت هناك حوض صغير من البلاستيك مملوء بمادة الرمل النظيف، وإذ بالمرمم يقوم بغرس إحدى القطع في الرمل عند خط معين، وقام بعد ذلك بتثبيت القطعة الثانية فوق الأولى، وبذلك تم لصقها بواسطة ثقل القطعة نفسها، وكان عمل المرمم يتصف بالدقة والحذر الشديد»... لاشك أنه بعد عملية اللصق ستظهر بعض الزوائد ذات اللون الأبيض تخرج من الوصلات على حافة الكسرة الفخارية، ففي هذه الحالة لابد من إزالتها بواسطة مادة تسمى (أميلو أسيتات ACETATO DE AMILO ).. والفخار الذي يُصنع منه الأواني على عدة أنواع، منه المفخور جيداً ومنه الهش وغير النقي، لذلك إذا كان الفخار هشاً وذو نوعية رديئة، فعلى المرمم استعمال مادة قوية، كي لا تنكسر الأجزاء عند عملية الوصل، ويُنصح باستعمال مادة لاصقة من نوع (راتينج ايبوكسي)، وهذه المادة متوفرة بشكل منتظم في الأسواق.
ب- في العادة أثناء عملية التنقيب يتم العثور على أوانٍ فخارية ناقصة الأجزاء، وقد تكون هذه الأجزاء صغيرة أو كبيرة، ففي مثل هذه الحالة يقوم المرمم بسد الفراغات بمادة الجبس الناعم وذلك على النحو التالي:
- في البداية يقوم المرمم بإعداد قالب، قد يكون من مادة الشمع القاسي، وبواسطة التسخين يتحول إلى مادة مرنة (مركب الطبع)، وقد تكون المادة التي يصنع منها الغالب من مادة الشمع السني.
وبالعودة إلى المادة الشمعية المرنة (مركب الطبع) نجد له مزايا عديدة منها:
1ـ يعتبر هذا المركب من أرخص أنواع المركبات وموجود في أغلب المحال التجارية.
2ـ يمكن استخدامه لأكثر من مرة وذلك بإعادة تسخينه من جديد، ومن عيوبه أنه من الصعب إزالته، كما أنه لا يعطي شكلاً جميلاً ولا تفاصيل دقيقة.
أما الشمع السني فله هو الآخر مزايا عديدة منها:
1ـ سهل النزع من على سطح الآنية الفخارية.
2ـ يمكن استخدامه لمرات عديدة، بعد إذابة القطع بالماء المغلي وتركه يبرد، حيث أنه بهذه الطريقة يمكن الحصول على ألواح من الحجم المطلوب.
3ـ بعد استعماله يعطي تفاصيل جميلة وشكلاً دقيقاً، وعند تسخينه فقط بماء فاتر، ويجب إبعاده عن الماء المغلي.
4ـ سهل الحصول عليه في الأسواق ويوجد على شكل علب تتسع من /10/ إلى /20/ لوحاً ذات لون زهري، وهذه الألواح رقيقة ومطواعة، ويجب حفظها في أماكن
|
قطعة أثرية قبل الترميم |
مناسبة.
أما عيوب الشمع السني فهي قليلة:
أولاً: باهظة التكاليف.
ثانياً: القالب الواحد لا يمكن استعماله لأكثر من مرة بسبب تصلبه عندما يبرد.
ثالثاً: تأثره السريع بالحرارة العالية والرطوبة.
كيف يمكن إعداد قالب الجزء الفخاري المكسور والمفقود؟
من أجل إعداد مثل هذا القالب الخاص بالجزء الفخاري النقص، يقوم المرمم بإعداد لوح من الشمع السني، أو مركب الطبع المغلف بالبلاستيك، حيث يقوم المرمم بطبع مقطع لكامل الآنية من الداخل، ثم يقوم المرمم بنقله إلى داخل الآنية ووضعه في الفراغ الناقص بالتمام، وبهذه الحالة يمكن إعداد الجزء الناقص من جدار الآنية بالجبس الناعم من السطح الخارجي للآنية الفخارية، ويتمم تحضير العجينة من الجبس الناعم بمزجه بالماء في وعاء بلاستيكي واسع، بعد ذلك يتم صب الجبس فوق القالب، ويجب أن نكون العجينة كافية، وبعد جفافها يُنّعم بواسطة ورق التنعيم الخاص. وبعد الانتهاء من هذه العملية، يُفضّل بأن تدهن القطعة المرممة بلون محايد على الجبس على أن يكون قريباً من لون الفخار.