تحتوي أرض مصر على أكثر من ثلث آثار البشرية في عشرات المواقع والمدن، وداخل قاعات العرض في عشرات المتاحف، وتنقسم الآثار المصرية- والتي تعد تراث مصر القومي- إلى آثار الحقبة الفرعونية، وآثار الحقبة اليونانية الرومانية، وآثار الحقبة القبطية، والآثار الإسلامية، ومن أهمها: "أهرامات الجيزة وأبو الهول- آثار منطقة سقارة- آثار منطقة دهشور- آثار الأقصر وأسوان- الكنائس- المساجد والقلاع والأبواب والأسوار الإسلامية".
ومنذ تولَّى فاروق حسني مسئولية وزارة الثقافة والحفاظ على تراث مصر أصبح في عالم الأحلام والآثار تتساقط وتحترق..!!
وقد أعلنت وزارة الثقافة مؤخرًا عن البدء في تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع المتحف المصري الكبير الذي يقام على مساحة 117 فدانًا بطريق الإسكندرية الصحراوي، بتكلفة إجمالية قدرها حوالي 550 مليون دولار، وقال فاروق حسني- وزير الثقافة- إن المرحلة الأولى تتضمن إقامة أول ثلاثة مبانٍ بالمشروع، تشمل مركزًا ضخمًا للترميم ومحطةً لتوليد القوى الكهربائية للمشروع، بالإضافة إلى محطة عملاقة لإطفاء الحرائق على أحدث مستوى تكنولوجي، وتقام هذه المباني على مساحة 40 ألف متر، وينتهي العمل بها جميعًا منتصف عام 2008م.
ويتم تمويل المشروع من خلال ثلاث جهات، ولا تعتمد على ميزانية الدولة؛ حيث قدمت الحكومة اليابانية قرضًا ومنحةً (حوالي 300 مليون دولار) بالإضافة إلى 100 مليون دولار تمويلاً ذاتيًّا من المجلس الأعلى للآثار، وباقي التكلفة تتم من خلال مِنَح ومساهمات مصرية وعالمية؛ حيث سيتم التعاقد مع إحدى الشركات الدولية المتخصصة لجمع هذه التبرعات لتوفير حوالي 150 مليون دولار.
والسؤال الذي نطرحه هو: أين تذهب أموال هذه الترميمات؟! ولماذا تتعامل وزارة الثقافة في مسألة الترميم بسريَّة تامة وفي غياب من الشفافية وكأنها أسرار عسكرية؟! ولماذا يماطل المجلس الأعلى للآثار في تزويد الصحفيين بالمعلومات المطلوبة والكافية عن الترميم وتكلفتها الإجمالية؟ ولماذا لا يكشف عن الأرقام الحقيقية والفلكية من أموال الشعب المهدرَة على الترميم المبالغ فيه؟!
إن الشكوك تتجدَّد مع كل مشروع لأسباب كثيرة، منها- على سبيل المثال- ارتفاع ترميم الكنيسة المعلقة من 27 مليونًا إلى 60 مليونَ جنيه، ثم إلى 100 مليون!! وتخصيص 25 مليون جنيه لقصر المسافر خانة بعد احتراقه و50 مليون جنيه تكلفة ترميم الأزهر، ارتفعت إلى 100 مليون لصالح شقيق أحد الوزراء، وبالرغم من ذلك أثبت المتخصصون أن أخطاء الترميم فيه بالجملة، و50 مليون جنيه لترميم قصر محمد علي، تحوَّل بعدها لعروض الأزياء ولإقامة الحفلات لكبار المسئولين، ونقل تمثال رمسيس من موقعه إلى المتحف الجديد بتكلفة أكثر من 6 ملايين جنيه!! و300 مليون دولار كقرضٍ ميسَّر من الحكومة اليابانية؛ بحيث يحسب 65% من الدين كمنحة فيما يسدَّد الباقي خلال 10 سنوات وبفائدة تبلغ 1.5% لمدة 30 عامًا، وذلك لإنشاء المتحف المصري الكبير بمنطقة هضبة أهرامات الجيزة، وترميم جامع أحمد بن طولون الأثري الواقع في منطقة القاهرة التاريخية بتكلفةٍ بلغت 13 مليون جنيه مصري، واستغرق ترميم الجامع 4 سنوات!!
ثم ارتفعت تكاليف ترميمه فيما بعد أيضًا إلى 18 مليون جنيه، قامت وزارة الثقافة بالإشراف على عمليات الترميم فيه، في إطار مشروع تطوير القاهرة التاريخية، ووضْع حجر الأساس لمتحف الحضارة المصرية في ديسمبر 2002 بمنطقة الفسطاط؛ ليستوعب 50 ألف قطعة أثرية، ويتكلَّف حوالي 200 مليون جنيه.
أما مجموعات الغوري وأبو الدهب وخان الزراكشة، والتي تضم أكثر من 30 أثرًا بالقاهرة التاريخية فتمَّ ترميمُها وتطويرُها بتكلفة إجمالية حوالي 45 مليون جنيه، كما أن مجموعة أبو الدهب تُعدُّ ثاني وأعظم مجموعة أثرية في العصور الإسلامية بعد الغوري، واستغرق ترميمها أيضًا حوالي 6 سنوات بتكلفة 20 مليون جنيه!!
كما تكلف ترميم وزارة الثقافة لمعبد سربيت الخادم- الواقع وسط شبه جزيرة سيناء- 12 مليون جنيه، حسب الدراسة التي أعدها المجلس الأعلى للآثار!! كما أن عمليات سابقة لأبو الهول أسهمت في تفاقم أعراض الإجهاد مع التلوث وارتفاع منسوب المياه الجوفية، على الرغم من أن عمليات الترميم أيضًا تمت تحت إشراف وزارة الثقافة؛ مما حدا البعض على تقديم بلاغٍ إلى النائب العام يعترضون فيه على تلك الترميمات
وكانت حملة ترميم أبو الهول قد استمرت حوالي 10 سنوات وتكلَّفت أكثر من مليوني دولار!!
كما وصلت تكلفة ترميم دار الكتب إلى 85 مليون جنيه، وأعيد ترميم (38) أثرًا إسلاميًّا وتاريخيًّا بمنطقة القاهرة الفاطمية بتكاليف بلغت نحو 100 مليون جنيه مصري.
إن ما ننشره من هذه الأرقام الضخمة والمفزعة هو عبارة عن قشور بالنسبة للحقيقة التي غابت في ظل انعدام الشفافية وغموض وسرية، وسط مبالغات واضحة في التكلفة، وتخبُّط في الأسعار المحددة واختلافها!!
لكنَّ الوزير عندما يُسأل لديه الإجابات الجاهزة والمقنعة في نفس الوقت، وهي أن تكلفة ترميم وتطوير المشروع "الفلاني" تعدُّ بسيطةً وزهيدةً مقابل هذا الأثر الفني الرائع، فقد تم ترميم جميع المنشآت ترميمًا دقيقًا عالج عمليات الترميم الخاطئة التي تمَّت من قبل!! ويؤكد دائمًا أن الوزارة تقوم حاليًا بتنفيذ عدد من المشروعات الضخمة في مجال الآثار، ويتم تنفيذها بشكل اقتصادي، وإن حالة الأثر قبل الترميم كانت سيئةً بل وبالغةَ السوء وفي حالة انهيار، وتم إنقاذ الأثر!!
إن سيلاً من الشبهات تحيط بالغالبية العظمى لمشروعات ترميم الآثار، والتي تؤدي إلى إهدار آلاف الملايين من المال العام.. والغريب في الأمر أن المكاتب التي يسند إليها مشروعاتُ ترميم الآثار ثبَت عدمُ تخصصها في ترميم الآثار، أما اللجان العلمية وآراء العلماء "فللديكور" فقط!!
وعن أخطاء الترميم يقول الدكتور حجاجي إبراهيم- عالم الآثار المعروف- منتقدًا ما حدث للمتحف القبطي في ترميمه الأخير وجامع أحمد بن طولون وعمرو بن العاص وجامع الأزهر، وكذلك أخطاء ترميم الكنيسة المعلقة والتي كل فترة يعلُن عن زيادة تكلفة ترميمها فمِن 26 مليونًا إلى 60 مليونًا إلى 100 مليون حتى الآن!! والتي كان من المقرر أن يتم افتتاحها في عهد الدكتور عاطف عبيد وحتى الآن لم يتم افتتاحها!!
مشيرًا إلى أنه كان من أول من نبَّه أيضًا إلى أخطاء الترميم التي حدثت في قلعة صلاح الدين أيام الدكتور أحمد قدري- رحمه الله- والذي كانت الشقوق تزيِّن بيته، في الوقت الذي كان يمكنه- كما فعل غيره فيما بعد- أن يأتي بكل المرمِّمين والعمَّال لترميم بيته أو لبناء قصر له!!
ومن أخطاء الترميم أيضًا ما حدث في جامع "قراجا الحسني" المسمَّى "جامع بلا مئذنة ومئذنة بلا جامع" في منطقة درب الجماميز بالسيدة زينب؛ حيث حدث ميلٌ في جدار القبلة، وظهرت الشروخ في جدرانه، وذلك فور الانتهاء من عملية ترميمه الخاطئة!!
وينتقد الدكتور أحمد الصاوي- أستاذ الآثار بجامعة القاهرة- غياب الشفافية في إعلان الأرقام وعمليات الإسناد وأسماء الشركات والطرق الفنية المستخدمة في الترميم، على الرغم من أن ذلك جزءٌ يتعلق بالمال العام وكيفية إنفاقه، ولا بد من الإشارة إلى أسماء المقاولين وقيمة المقاولات، وأن يعلن ذلك بشكل دائم، ودون أن يطلب أحد، وأن يكون الحصول عليه متاحًا بأي طريقة من الطرق، بما في ذلك النشر الإلكتروني على الموقع الحكومي؛ لأن هذه المسألة غير مشمولة بالسرية لدواعٍ أمنية!!
علمًا بأن الشفافية في هذه الأمور ستقوم بحفظ المال العام، وتدعم التنافسية بين رجال المقاولات أو القطاع الخاص المشتركين في أعمال الترميم والمقاولات، كما أن ذلك من شأنه كشف شبهة الاحتكار إن وجدت والتي تتسبَّب في إهدار المال العام، كما تحسِّن من المعايير الفنية بما يحقق الترميم المطلوب للأثر، ويجنبنا الكثير من الأخطاء.
ولهذه الأسباب يرى الدكتور أحد الصاوي أن من حق المواطنين "باعتبارهم دافعي ضرائب"، ومن حق مجلس الشعب "كجهة رقابية شعبية"، ومن حق أهل الاختصاص من العلماء أن يطلبوا إفصاحًا واضحًا من وزارة الثقافة عن كل هذه الأمور، فإذا كانت الأمور تسير بشكل قانوني وسليم واقتصادي فلما الخشية من الإفصاح.. هذا هو السؤال؟
تحياتى للجميع